سورة يونس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه، ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في هذا الطلب.
المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً مجتهداً في ذلك الدعاء طالباً من الله تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمنحة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابراً عند نزول البلاء شاكراً عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية. حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء».
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمور: فأولها: أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه.
وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق. فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب.
وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلاً عن الدعاء كان أفضل، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أن الأول أفضل، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحاً في الدين، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحاً عنده على الدنيا.
وثالثها: أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء.
وهاهنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه، وهو أن أهل التحقيق قالوا: إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولاً بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولاً بالبلاء لا بالمبلي، ومثل هذا الشخص يكون أبداً في البلاء، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء، فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشاً، فثبت أن من كان مشغولاً بالنعمة كان أبداً في لجة البلية.
أما من كان في وقت النعمة مشغولاً بالمنعم، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولاً بالمبلي. وإذا كان المنعم والمبلي واحداً، كان نظره أبداً على مطلوب واحد، وكان مطلوبه منزهاً عن التغير مقدساً عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء، غرقاً في بحر السعادات، واصلاً إلى أقصى الكمالات، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر.
المسألة الثالثة: اختلفوا في {الإنسان} في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} فقال بعضهم: إنه الكافر، ومنهم من بالغ وقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان، فالمراد هو الكافر، وهذا باطل، لأن قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 6، 7] لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه، وكذلك قوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر} [الدهر: 1] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] فالذي قالوه بعيد، بل الحق أن نقول: اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل. ولفظ {الإنسان} هاهنا لائق بالكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم ألبتة.
المسألة الرابعة: في قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} وجهان:
الوجه الأول: أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله: {لِجَنبِهِ} في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه، والتقدير: دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
فإن قالوا: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
قلنا: معناه: إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر، سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
والوجه الثاني: أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر، والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج. والأول: أصح، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب.
المسألة الخامسة: في قوله: {مَرَّ} وجوه:
الأول: المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد.
الثاني: مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ} تقديره: كأنه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} [يونس: 45] قال الحسن: نسي ما دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه:
المسألة السابعة: قال صاحب النظم: قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} {إِذَا} موضوعة للمستقبل.
ثم قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا} وهذا للماضي، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل. فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي، وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر، وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع، وإظهار الخضوع والانقياد، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران. فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم.
المسألة الثامنة: في قوله تعالى: {كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أبحاث:
البحث الأول: أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم.
البحث الثاني: في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحانه الكافر مسرفاً. وفيه وجوه:
الوجه الأول: قال أبو بكر الأصم: الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما، أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
الوجه الثاني: قال القاضي: إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره، كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح، إذا تجاوز الحد فيه.
الوجه الثالث: وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة. والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة، فوجب أن يكون من المسرفين.
البحث الثالث: الكاف في قوله تعالى: {كذلك} للتشبيه. والمعنى: كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زُيِّن للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.


{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم، والغرض منه أن يكون ذلك رادعاً لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مراراً كثيرة. صار ذلك رادعاً لهم وزاجراً عن ذكر ذلك الكلام، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف {لَّمّاً} ظرف لأهلكنا، والواو في قوله: {وَجَاءتْهُمْ} للحال، أي ظلموا بالتكذيب. وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات، وقوله: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا، وأن يكون اعتراضاً، واللام لتأكيد النفي، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل، فكذلك يجزى كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله، وقرئ {يَجْزِى} بالياء وقوله: {ثُمَّ جعلناكم خلائف} الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، لننظر كيف تعملون، خيراً أو شراً، فنعاملكم على حسب عملكم. بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
والجواب: أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.
السؤال الثاني: قوله: {ثُمَّ جعلناكم خلائف فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} مشعر بأن الله تعالى ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
والجواب: المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] وقد مر نظائر هذا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» وقال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيراً، بالليل والنهار.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: موضع {كَيْفَ} نصب بقوله: {تَعْمَلُونَ} لأنها حرف، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولو قلت: لننظر خيراً تعملون أم شراً، كان العالم في خير وشر تعملون.


{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.
المسألة الثانية: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن. الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} وفيه بحثان:
البحث الأول: أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه:
الأول: قال الأصم: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي لا يرجون في لقائنا خيراً على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها.


الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف، لا يخاف أيضاً ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمناً بالبعث والنشور فإنه لابد وأن يكون راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث. فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.
البحث الثاني: أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أمرين على البدل: فالأول: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن.
والثاني: أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئاً واحداً. وأيضاً مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما، وهو قوله: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلاً.
والجواب: أن أحد الأمرين غير الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتياناً بقرآن آخر، وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمة آية عذاب، كان هذا تبديلاً، أو نقول: الإتيان بقرآن غير هذا هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب. مع كون هذا الكتاب باقياً بحاله، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب.
وأما قوله: إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.
قلنا: الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني. وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني.
وإنما قلنا: الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين:
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر سائر العرب على مثله، فكان ذلك متقرراً في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا.
والثاني: أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن، فجوابه عن الأسهل يكون جواباً عن الأصعب، ومن الناس من قال: لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن، وجعل قوله: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ} جواباً عن الأمرين، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.
المسألة الثالثة: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، مثل أن يقولوا: إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير.
والثاني: أن يكونوا قالوه على سبيل الجد، وذلك أيضاً يحتمل وجوهاً: أحدها: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان، حتى إنه إن فعل ذلك، علموا أنه كان كذاباً في قوله: إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله.
وثانيها: أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم، وهم كانوا يتأذون منها، فالتمسوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك.
وثالثها: أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله، التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر.
وهذا الوجه أبعد الوجوه.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول: إن هذا التبديل غير جائز مني {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى. ويتفرع على هذه الآية فروع:
الفرع الأول: أن قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} معناه: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد.
الفرع الثاني: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: دل هذا النص على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالنص. فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] الفرع الثالث: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن ذلك منسوخ بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.
الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن قوله: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} مشروط بما يكون واقعاً بلا توبة ولا طاعة أعظم منها، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث. وهو أن لا يعفو عنه ابتداء، لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8